د. محمد ذكري يكتب: منصة الثقافة الإنسانية عبر أفكار أسامة مهران

د.محمد ذكري عالم بحريني مقيم في ألمانيا
كيف شاءت الأقدار؟ لكنها شاءت أن اقابل الأستاذ أسامة مهران. أهداني يوم أمس ديوانه الشعري المنعوت ” كائنات مجهولة النسب“.
قد أكون أبعد انسان من ممارسة النقد الأدبي ولكني قررت أن أقرء الديوان وأنجزه في ليلة أنثروبولوجية (تخصصي) من شدة ابداع أفكاره، وعبقرية تعبيراته السهلة المدهشة. قررت أن أقص من أوراق الديوان أفكار لأصنع منها طائرة ورقية. ومن أن أحلق على ظهرها في فضاء الوعي الذي يسعى صاحب الكتاب من انعاشه.
أسامة يصل الى القارئ عبر ما هو معلوم في أفقه اليومي ليجعل من الأشياء والأفكار رموزا يتحدث من خلالها.
تصدى أسامة للتحدث عن جيل سابق يحن الى مألوفاته الهادئة، المؤسسة على قناعات محلية أصيلة. المقطع التالي يعبر عن الحنين الى الماضي الجميل:
للممكن المستحيل .. ان يعشق أي اقتراب بعيد… أأنت التي قربتني من الأمس.. أم أن أمسي يلاحقني من جديد؟
لكن من منا لا يعيش بدون تعكرات؟ تعكرات تفرزها التحولات الثقافية، المجتمعية، والاقتصادية. خذ مثلا عنوان الديوان: “كائنات مجهولة”، انه عنوان يحيل مخيلة المتلقي الى أفلام هوليودية المريبة، المثيرة، والمخيفة. أسامة يصف سلبيات جيل شاهده في العالم العربي. جيل تنصل من موروثه، وعن أصالته. فمجهول النسب (” كائنات مجهولة النسب“) هي تلك العادات الدخيلة، التي لا يوجد لها تاريخ بيننا ولا جذور قديمة.
في علم الأنثروبولوجي يسمي الاختلاف الكبير بين أفراد أي مجتمع بأنه نتيجة انقطاع جيلي (intergenerational discontinuity) كما الذي يحصل عادة بين جيل أكبر سنا وجيل أحدث سنا. كل جيل له مرجعيات مختلفة جدا.
حوارات أسامة مع شخوص ديوانه ومع ذاته كثيرة لكنها لا تهرب من الواقع. ديوان أسامة يتحدث عن واقعنا. واقع موجود بيننا شئنا أم أبينا فيه من نعلم مرجعياته ومن لا نعلم بمرجعياته. هذا الواقع يجعلنا نتعايش مع ” كائنات مجهولة النسب“. هذا الواقع يجعلنا في حالة صاخبة ذات جدل وتشنجات وأفكار.
لكن ما هو موقف أسامة مهران من هذه التناقضات؟ في هذا النص التالي يقرر اسامه أن يتعايش مع واقعه تحت شروطه الخاصة يسميها “مجاملة”. بمعنى آخر انه يتقبل أن يكون المجتمع متكون من عدة أجيال كل جيل له قناعاته ورؤاه وأفكاره.
أخفيت وجودي … كدت أفيق من اللملمة الأبدية… وأجدف في عكس بلوغ.. التيار… مجاملة أخرى وهدايا عينية…
بمعنى آخر انه خلق فضاء ثالث على نمط المفكر الهندي البريطاني هومي بابا(Homi K. Bhabha) نظرية “الفضاء الثالث”
(Third Space Theory) تعتبر مساحة غامضة تتشكل عندما تتفاعل ثقافتان أو أكثر. هذا الفضاء يتحدى المفهوم التقليدي للهويات الثقافية كقوى موحدة ومتماثلة، وهو يعد نقطة تحول حيث يتم إعادة تعريف الثقافات عبر التفاعل بين الماضي والحاضر، بين الأجيال القديمة والجديدة. في هذا الفضاء، يتم رفض فكرة نقاء الثقافات الأصلية أو هويتها الثابتة، حيث يتم إعادة تفسير الرموز والأنماط الثقافية عبر الزمن والتجارب المختلفة.
وبالنسبة للاندماج بين جيل قديم وجيل ينتمي إلى عصر السوشيال ميديا، يظهر الفضاء الثالث كمساحة تسمح بتبادل الأفكار وتشكيل هويات هجينة، مما يساهم في تجاوز الحدود الثقافية الثابتة. في هذه المساحة، تصبح الثقافة عملية متغيرة، حيث يمكن ترجمة وإعادة قراءتها بطرق جديدة وفقًا للسياقات المختلفة.
أسامة مهران في ديوانه “كائنات مجهولة النسب“ يعبر عن صراع بين الأجيال ويستحضر الحنين إلى الماضي الجميل من خلال نصوصه التي تمزج بين الرمزية والواقع المعاصر. هو يصف التغيرات التي تحدث داخل المجتمع العربي، معتبراً أن “الكائنات المجهولة النسب” هي تلك العادات والثقافات المستوردة التي لا جذور لها في تاريخنا.
في الوقت ذاته، يخلق مهران “فضاء ثالث” كما يقترح هومي بابا، وهو مساحة يلتقي فيها الجيل القديم الذي يقدر تقاليده وقيمه مع الجيل الجديد المتأثر بعصر التكنولوجيا ووسائل التواصل الاجتماعي. هذا الفضاء يتيح للثقافات المختلفة أن تتداخل وتتشكل هويات هجينة تتجاوز المفاهيم الجامدة حول الثقافة والنقاء الثقافي.
من خلال هذا “الفضاء الثالث”، يتعامل أسامة مهران مع الواقع المعقد ويقبله، مما يعكس قدرة الأفراد على التعايش مع تحولات مجتمعية وثقافية تحت مفاهيم من المجاملة والتقبل.