أخبار الأهلية

عبدالنبي الشعلة يروي سيرة كفاحه في الجامعة الأهلية ويعلن مفاجأة دراسية في سن السابعة والسبعين

“الشعلة” أمام جمع غفير في الجامعة الأهلية:
– العمل الخاص كان وسيظل خياري المفضل
– واجهنا العواصف الرقمية بتجديد الدماء واحتراف التكنولوجيا
– على الطلاب التحلي بالصبر والإرادة وتكرار المحاولة
– عندما كنت وزيرًا .. لم أمنع إضراب العمال
الحواج: عرفته مقاتلاً في معارك الحياة وبطولاته الإنسانية
مهران: ساهم في تغيير نظرة المجتمع للعمل التجاري

في يومٍ مشرق من أيام ديسمبر، حملت القاعة الرئيسية في الجامعة الأهلية أكثر من مجرد حدث؛ فقد حملت لقاءً إنسانياً نادراً، حوّل المكان إلى مسرحٍ لسرد ملحمة. كان اللقاء المُعنون بـ “تجربة نجاح” غوصاً عميقاً في أعماق تجربة إنسانية ووطنية استثنائية، حيث تحوّلت الكلمات إلى نوافذ تطل على حقبات تاريخية، وتحوّل الحضور من مستمعين إلى رفاق رحلة في مسيرة حافلة.

احتضنت الجامعة الأهلية، في الأول من ديسمبر 2025، الرجل الذي يُعدّ سفراً متنقلاً للتجربة والحكمة: الأستاذ عبدالنبي الشعلة، رئيس مجلس إدارة صحيفة البلاد. الرجل الذي لم يكن مجرد شاغلٍ لمنصب، بل كان ظاهرة من ظواهر التميز والنجاح؛ تنقّل بين فضاءات التجارة الواسعة، وساحات العمل العام الشائكة، ومجالس التشريع المسؤولة، وكراسي الوزارة الحساسة، وصولاً إلى براح الصحافة والإعلام المضطرب. ظلّ في كل محطة، كما وصفه بدقة البروفيسور عبدالله الحواج في كلمته الافتتاحية التي حملت إعجاباً نابعاً من معرفة طويلة، “مقاتلاً”، حاملاً سلاح الإرادة ودرع المبدأ، لم يغادر موقع الدفاع عن فكرة، أو بناء وطن، أو خوض معركة تطوير.

تحية لصاحب مسيرة من نوع خاص

افتتح البروفيسور عبدالله الحواج، الرئيس المؤسس رئيس مجلس أمناء الجامعة الأهلية، اللقاء بكلمات لم تكن مجرد ترحيب شكلي، بل كانت تشخيصاً دقيقاً لشخصية الضيف.

قال الحواج بصوته الواثق وهو يلقي نظرة تقدير نحو الشعلة: “الأستاذ عبدالنبي الشعلة غني عن التعريف، سعداء جدًا بوجوده بيننا، نستمع إليه، نستفيد منه ونتعلم من سيرته وتجربته. هو رجل مقاتل، يكافح، يتطلع دائمًا إلى المزيد من الإنجازات، وسعيد جدًا بتواجده بين أبنائه الطلبة اليوم.” كانت كلمات الحواج مختزلةً لعقود من العطاء، مؤكدة أن مسيرة الرجل كانت سلسلة من المحطات غير العادية، والقرارات غير التقليدية، التي اتسمت دوماً بـ “المغامرة المحسوبة”، وبروح “الإصرار” التي تتجاوز حدود الممكن المرسوم لتخلق ممكناً جديداً.

استعادة اللحظات التأسيسية

أمسك دفة إدارة هذا الحوار الثري المستشار الإعلامي للجامعة الأهلية الأستاذ أسامة مهران، الذي قدّم الضيف لا بصفاته الرسمية، بل بوصفه “الشخصية التي غيّرت نظرة المجتمع للعمل التجاري”. أعاد مهران للحضور، وللجيل الجالس في القاعة، شريط ذاكرة الوطن إلى عام 1983، حين اقتحم عبدالنبي الشعلة، وهو شاب في مقتبل العمر، معترك انتخابات غرفة تجارة وصناعة البحرين.

وقف أمام أسماء كبرى وشخصيات عريقة في عالم المال والأعمال، تحمل خبرات تمتد لعقود. لكن ثقة الشارع التجاري به، وإيمانهم بفكره الجديد، منحاه 531 صوتاً، ليفوز بأعلى الأصوات.

ولم تكن هذه ثقة عابرة، بل تجددت في دورتين متتاليتين، ليشكل بذلك ظاهرة جديدة في الحياة الاقتصادية. لم تتوقف المسيرة عند هذا الحد، بل انتقلت به إلى محطة مجلس الشورى، ثم إلى محطة أكثر حساسية عندما كلّف بمنصب وزير العمل والشؤون الاجتماعية عام 1995، في فترة وصفها الحضور بالفارقة والتاريخية. علّق مهران قائلاً: “نحن أمام قصة نجاح ملهمة بكل تفاصيلها، تجربة بدأت من الصفر تقريبًا، وتشكّلت على نار التجربة والمعاناة والإرادة.”

جذور تتحدث عن شجرة وارفة

عندما أمسك الأستاذ عبدالنبي الشعلة بالحديث، اختار أن يبدأ من نقطة النقاء الأولى، من الجذور. عاد بذاكرته الحافظة والمتيقظة إلى عام 1965، حيث أنهى تعليمه الابتدائي. لا تزال ذاكرته تحتفظ بنبض تلك الأيام، وبنغمات الهتافات التي كانت تملأ الشوارع، فيتذكر مشاركته العابرة، كفتى يافع يشاهد العالم الكبير، في المظاهرات النقابية، ويتردد صدى الشعارات في أذنه كما لو كان يسمعها الآن: “يا عمال الحركة، الشركة مرتبكة، والبحرين في معركة.” بعد إتمام المرحلة الثانوية، لم يكن الطريق أمامه مفروشاً بورود الفرص الجاهزة. اختار طريق الكدح والمعرفة العملية، فانضم للعمل مع مقاول البناء الحاج حسن بن محمد العالي من منطقة عالي.

من هذا الرجل، كما يقول الشعلة، تعلّم “معنى الجد والاجتهاد والانضباط” بتفاصيلها اليومية. واجه خياراً صعباً: وظيفة حكومية مضمونة في التدريس، أو مواصلة العمل الشاق مع المقاول مقابل أجر زهيد آنذاك (45 ديناراً). اختار الثاني، لأن العائد لم يكن المال فحسب، بل المعارف والخبرات والصلات الواقعية بالحياة. بلغ من حرصه على الاستفادة من الوقت أنه أعدّ لنفسه غرفة صغيرة داخل مصنع الشركة في طشان، ليختصر وقت الذهاب والإياب ويكسب ساعات ثمينة إضافية للعمل والقراءة. استمر على هذا النحو ثلاث سنوات كاملة، لم يأخذ خلالها إجازة ليوم واحد، ليتمكن في النهاية من جمع مبلغ 1500 دينار، شكّل رأس المال المادي والأخلاقي لتحقيق حلمه: السفر والدراسة في الخارج.

رحلة علاج تتحول إلى جامعة كبرى

كانت وجهته الأولى في الخيال هي بريطانيا، لكن القدر كان يخبئ له مدرسة من نوع آخر. تعرّض الحاج حسن بن حمد، زوج والدته، لوعكة صحية صعبة تطلبت علاجه خارج البلاد، ولم يكن له مرافق سوى الفتى عبدالنبي. انطلقا معاً إلى بومبي في الهند، في رحلة كان يظنها مؤقتة، لكنها تحولت إلى إقامة طويلة غيّرت مسار حياته.
في بومبي، وجد الشعلة نفسه أمام عالم جديد: تنوع هائل، وتعايش سلمي، وثقافات متعددة.

قرر أن يغتنم الفرصة، فتعلّم اللغة الإنجليزية بحماس المنقّب عن كنز، وانخرط في الحياة هناك. لم يقتصر تعليمه على قاعات المحاضرات، بل جعل من الشارع والأسواق والناس جامعة متكاملة. ليوفر لنفسه مورد رزق، لجأ إلى موهبته في الكتابة، فأرسل مقالاته إلى المجلات والصحف البحرينية، ومن أبرزها مجلة “صدى الأسبوع”، التي كان يتولى دفع مكافآتها الصحافي المخضرم علي سيار. يحتفظ الشعلة بتلك المقالات كذكرى عزيزة، ويخطط اليوم لجمعها في كتاب يروي جزءاً من تلك المرحلة.

في الهند أيضاً، برزت شخصيته القيادية والوطنية، فأسس مع رفاقه رابطة طلبة البحرين في بومبي وترأسها، كما تولى رئاسة اتحاد الطلبة العرب، محافظاً على خط معتدل ومستقل رفض خلاله الانخراط في التيارات الشيوعية الجذابة آنذاك، رغم العروض المغرية والمنح المجانية التي قدّمت له عبر ما كان يُعرف بـ “جامعة الصداقة” التابعة للاتحاد السوفيتي.

العودة والقرارات الثلاثة الجريئة

عاد الشعلة إلى أرض الوطن حاملاً شهادته الجامعية، وبقرض بسيط هو ثمن تذكرة السفر التي استلفها. بدأ حياته العملية في وزارة الخارجية عام 1973، في وظيفة محترمة. لكن عام 1973 كان عاماً فارقاً في المنطقة مع الارتفاع الكبير في أسعار النفط، وهو ما أيقظ في نفس الشعلة روح المبادرة والمغامرة مرة أخرى. وفي خطوة أذهلت من حوله، اتخذ ثلاثة قرارات مصيرية في أسبوع واحد فقط: الاستقالة من الوظيفة الحكومية، اتخاذ قرار الزواج، وافتتاح مشروعه الخاص في مجال العلاقات العامة. كانت هذه الدفعة الواحدة من القرارات الجريئة هي المنعطف الحاسم الذي قاده من حياة الموظف إلى فضاء رجل الأعمال وصانع التأثير.

معركة الغرفة والامتحان الوزاري الصعب

توجّهت خطواته الجريئة بعد ذلك إلى غرفة تجارة وصناعة البحرين. في عام 1983، خاض معركة انتخابية كان يبدو لكثيرين أنها غير متكافئة: شاب خبرته في السوق لا تتجاوز سبع سنوات، يواجه عمالقة اقتصاديين وخبراء تمرستهم بالأسواق لعقود.،لكن ثقة الناس والتجار به، وإيمانه بقدرته على تمثيلهم تمثيلاً مختلفاً، حققت له المفاجأة: الفوز بأعلى الأصوات.

كانت هذه البوابة التي فتحت له آفاقاً أوسع، فانتقل إلى مجلس الشورى، ثم استدعي لاحقاً لتولي حقيبة وزير العمل والشؤون الاجتماعية عام 1995. وجد نفسه أمام اختبار عملي صعب: ملفات شائكة، وواقع اجتماعي متأزم، ومظاهرات للعاطلين عن العمل تتصاعد.

كانت ردة الفعل النمطية تتوقع تدخلاً أمنياً لتفريق المتظاهرين، لكن فلسفة الشعلة كانت مختلفة. أوقف تدخل الشرطة، وفتح باب مكتبه، وذهب بنفسه للتفاوض المباشر وجهاً لوجه مع الشباب المتظاهرين. قال لهم كلمات واضحة: “نحن نشترك معكم في الأهداف، وسنعمل على توظيفكم.” تحولت الأزمة إلى فرصة للحوار والحل. في عهده، شهد ملف العمل تحولات جذرية، أبرزها إعادة تعريف مفهوم البطالة إحصائياً وقانونياً، ومنح النقابات العمالية الحق القانوني في الإضراب كوسيلة مشروعة للمطالبة بالحقوق، في خطوة اعتبرها المراقبون نقلة نوعية في تاريخ العلاقة بين العمال وأصحاب العمل في البلاد.

إطلاق “البلاد” في عصر العواصف الرقمية

لم يتوقف شغله بالتجديد عند حد. في عام 2008، وعندما كانت العاصفة الرقمية تضرب مؤسسات الإعلام التقليدية في العالم، وتتسبب في إغلاق صحف عريقة وتراجع أخرى، أقدم الشعلة على خطوة جريئة أخرى: إصدار جريدة “البلاد”. كان التوقيت تحدياً بحد ذاته، لكنه، كما يعبّر دوماً، يؤمن أن “وراء كل تحدٍ فرصة”. لم تكن “البلاد” مشروعاً تجارياً فحسب، بل كانت مشروعاً وطنياً وإعلامياً يحمل رسالة. يعترف اليوم بأن الطريق لم يكن مفروشاً بالورود، ويقول: “نحن لا نشتكي من الخسارة، والبلاد اليوم سبّاقة، ولديها مبادرات متعددة في البيئة والمجتمع، ولدينا قروب أعمدة البلاد… والمستقبل واعد جدًا.”

تفاعل يُثري التجربة

لم يكن اللقاء منبراً أحادياً، بل تحول إلى حوار غني. عبر الطالب إبراهيم عبدالعال، باسم طلبة الإعلام، عن الفخر بلقاء رمز إعلامي كبير، معبراً عن شغف الجيل الجديد بمعرفة خفايا المهنة. من جانبه، رأى رئيس الجامعة الدكتور منصور العالي أن “سيرة الشعلة تشكل دفعة قوية لكل شاب وشابة يريد أن يفهم معنى الحياة”، مؤكداً على قيمة القدوة العملية.

وأشارت أستاذة اللغة العربية د. رفيقة رجب إلى أن “إمكانيات طلبة الأهلية لا حدود لها”، مستلهمة من قصة الضيف أن الإرادة تحقق المستحيل. فيما ربط رئيس قسم الإعلام د. عبدالباسط بين التجربة ومستقبل المهنة، مؤكداً “أهمية التواصل والعلاقات العامة ودور الإعلام في تنوير المجتمع، وخطورته في تشكيل الوعي والاتجاهات.”

فلسفة حياة في بضع كلمات

اختتم الأستاذ عبدالنبي الشعلة هذا اللقاء الغني بتلخيص فلسفته التي صقلتها السنون في كلمات بسيطة لكنها ثقيلة كالجبل: “الإنسان هو الجامعة. عليك أن تدرك التحديات والفرص. زادت التحديات، لكن زادت معها الفرص أيضًا. التفاؤل، الثقة بالله، والإيجابية… هي الأساس. لا أؤمن بالعمل الحكومي، والمال ليس كل شيء.” كلمات تكشف عن نظرة ترى في الإنسان المشروع الأكبر، وفي التحدي البذرة الخفية للفرصة.

تسليم الراية والانطلاق نحو الدكتوراة

وفي لحظات صريحة ومفعمة بالتواضع والبصيرة، طرح الشعلة فكرة تسليم جزء من المسؤولية، قائلاً: “ربما آن الأوان أن أُسلم الراية إلى شخص آخر، وأنتقل لموقع آخر.” وكشف عن خطوة عملية في هذا الاتجاه بقوله: “رشحنا الأخ زهير توفيقي لرئاسة التحرير ونحن في انتظار موافقة وزارة الإعلام.” لكن التسليم لا يعني التوقف، بل التحول. ثم أذهل الحضور بمفاجأة ملهمة: كشف أنه تلقى عرضاً للحصول على الدكتوراه الفخرية، لكن ردّة فعله، التي تعكس حب التعلم الجوهري لديه، كانت مختلفة. قال: “كانت ردة فعلي مباشرة الاتصال بجامعة كامبريدج، لدراسة الدكتوراه.”.

عبدالنبي الشعلة
عبدالنبي الشعلة

وأضاف بابتسامة وإصرار: “أدرك أن سني السابعة والسبعين اليوم، لكنني وبكل عزم متجه فعلًا لدراسة الدكتوراه…” لترسل هذه الجملة رسالة صارخة إلى كل من يعتقد أن للطموح عمراً يقف عنده، وأن للتعلم نهاية: التعلم لا عمر له، والطموح لا يعرف التقاعد.

أكثر من فعالية.. إرث يُحكى

لم يكن لقاء “تجربة نجاح” مجرد فعالية جامعية تبدأ وتنتهي في ساعتها. لقد كان درساً حياً متحركاً في قوة الإرادة الإنسانية، وفي فن تحويل التحديات إلى سلالم، والفشل المحتمل إلى نجاح مؤكد. كان تأكيداً على أن حياة الإنسان يمكن أن تكون رسالة، وتجربته يمكن أن تتحول إلى منهج، واسمه يمكن أن يصير مدرسة تخرّج الأجيال.

وها هي الجامعة الأهلية تثبت مرة أخرى أنها ليست فقط مكاناً لتعليم العلوم، بل منصة لإضاءة العقول بنور التجارب، وشاهدة على كتابة فصول جديدة من قصة وطن، يسطرها رجال اختاروا أن يكونوا أدوات للتغيير، وأن تتحول سيرتهم إلى إلهام لأمة.

اقرأ ايضا:

عبدالنبي الشعلة يحكي قصة نجاحه في الأهلية: من رجل أعمال ووزير سابق إلى قائد صحفي مؤثر

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى