الناقد أحمد فرحات يكتب: آثمة ولكن

تصيب شدو محمد قارئها بالارتباك منذ الوهلة الأولى لعتبة النص الكبرى، معنا قصيدة مربكة حقا، تحمل عنوانا لافتا “آثمة ولكن” ويجب ألا ندير ظهورنا لعتبة كبرى كهذه، فالإثم كلمة قوية تحمل دلالات شتى فهو عمل سيء يرتكبه المرء في حق نفسه أو حق غيره، سواء يحمل نية طيبة أو شريرة، وهو ليس كلمة يسيرة يمكن أن تكون مصدر اعتراف بذنب ما.
والعنوان بما يتضمن من تأنيث(آثمة) يحمل أيضا معنى التماس العذر في الحرف(لكن) وهو حرف استدراك يتضمن نفيا لما سبق، ومن هنا جاءت حيرة المتلقي وتذبذب أفكاره صعودا وهبوطا والذهاب بخياله يمينا وشمالا .. باختصار العنوان يحمل ثنائية إثبات الذنب ونفيه في الوقت ذاته. فلعلها تؤمن بالخطيئة المتوارثة من زمن آدم، وبالخطيئة الجماعية التي وهب لها الأنبياء أنفسهم للتحرر من تبعاتها.
دعونا نقرأ العنوان الكبير (آثمة ولكن) قراءة مروحية ترددية، أي نقرأه بداية منه نفسه وانتهاء بالمضون الفكري للنص، ثم نعود لنقرأه من المضمون الفكري وانتهاء به نفسه.
في خمسة الأبيات الأخيرة نلمح بروزا جليا لتوظيف ضمير الأنا، سواء كان منفصلا، أم متصلا، فهو ملمح قوي يجب ربطه بالعتبة الكبرى بما فيها من ضمير ضمني للأنا (آثمة) وذلك لتكتمل الدائرة ويحسن انغلاقها وقفلها في شكل دائري:
أنا ذنبُك الأقصى فقلْ لجديلتي
ما كلُّ زهدٍ في الوصالِ تعفّفُ
.
أمشي فتنهرُني الدروبُ ملامةً
ما ضرّني منعُ الدروبِ تلطّفُ
.
وأمدُّ جسرًا من هواكَ و بينَمَا
سعيًا إليكَ وبي أكفك تتلفُ
.
أخطو على وجعِي إليكَ وليسَ لي
أملٌ يخلّصُني فكيفَ ستُنصفُ؟
.
سأحيكُ من جلدِ الفراقِ قصيدةً
وعلى أولِي الأهواءِ أنْ يتصوّفوا
نتأمل: أنا ذنبك الأقصى – أمشي فتنهرني الدروب-وأمد جسرا-أخطو على وجعي-سأحيك من جلد الفراق.. وكلها جاءت بضمير الأنا لتعلن الاعتراف بالذنب الذي أعلنت عنه صراحة في قولها: ذاك ذنبي أعترف، وحتى يظل الذنب سرا تراوغ في تصوير شخصية الآخر في النص الذي يمثل (المذكر) ذاك الضمير الغائب الحاضر بقوة في بنية النص الاعترافي، لنجد أول صفة وصفتها له،ضعف الحواس الإدراكية (ذكّرْ حواسَكَ كيف كانَتْ تضعفُ)،وعينان تائهتان هائمتان بين قبول ورفض، صمت وبوح، حب ولا حب؛(عينانِ هائمتانِ مشبوب الهوى).
ويدان ترتجفان من فرط التوله،(ويدانِ من فرطِ التولّهِ ترجفُ). ليجد القارئ نفسه داخل وعي الشخص الآخر في مواجهة محتوى صفاتها المعلن عنها، بضمير المخاطب أو الغائب، دون وساطة تذكر بين الراوي والمروي له وهي صفات دالة على المحتوى النفسي وما يمر داخلها من صراعات وأفكار تنبئ عن شخصية عازفة على وتر الابتعاد والتأفف تارة وعلى الإقبال والشغف بالعلاقة تارة أخرى.
وفي مقابل وصف المحبوب نجد وصف الراوية للأحداث الشعرية بما يشبه الاعتراف المفضي إلى الحقيقة المؤلمة، نلحظ كلمة الإهداء في (أهديته) هذه الهدية الثمينة التي أهدتها إليه تثير في النص مواجع ملتهبة وذكرى مقدسة وتثير في المتلقي استحضارا لطبيعة الشغف الأنثوي بالأشياء البسيطة التي تقوم عليها أمور اجتماعية وعاطفية شجية تأمل قولها:
فنجانُ قهوتِنَا الذي أهديتهُ
معنى الهيام بصحنهِ متزخرفُ
.
وجديلةٌ من شدو حين قصصْتها
أغرى حماقتَهَا هناك المعطفُ
ربما يقف المتلقي حائرا مترددا في تقييم علاقة بين محب ومحبوب، فأي هدية تلك التي يمكن أن تهديها امرأة إلى رجل، فنجان قهوة مزخرف؟ يمكن قبول ذلك .. جديلة من شعر شدو ؟ أمر صعب قبوله، لكنها أباحت واعترفت بمشاعر أنثى لا تدخر لنفسها حق الصمت أو الاحتفاظ بالسر، إنها تكشف عن مكنون عاطفة فياضة المشاعر، وتهدي إلى المحبوب أجل ما لديها جديلة شعر من شدو فيالقيمة الهدية!!
ولعل المتلقي يدرك بوعيه الحاني قيمة التضحية في ذكر اسم شدو في بنية البيت محل الاعتراف. وكأن الشاعرة تقول أقر وأعترف أنا شدو .. هذا الاعتراف المعلن يشي بالاعتداد بالذات دون تضخيم، ويفسر ذاتية التجربة التي تحولت سريعا إلى تجربة عامة تنهار أمامها جلامد القلوب الصلبة.
وتعد التفاصيل الدقيقة سمة مهمة من سمات شعر الاعتراف، والشاعر المخلص لا يستطيع أن يخلص لمتلقيه إلا إذا أخلص لنفسه؛ لأنه بهذا الإخلاص لنفسه حالات من العيش والتفكير والأهداف والوسائل يؤمن بها ويمارسها، ولذلك يحاول أن يعيد النظر في الذكرى ويقلّب جنباتها علّه يظفر فيها بتعويض يتناسب طرديا مع شعوره بالتلاشي.
إن الشاعرة شدو محمد تحاول أن تجذب قارئها بسرد بعض التفاصيل في أدق التصرفات وأرق الأحاسيس للتدليل على رقي المشاعر الإنسانية في إطار فني بعيد كل البعد عن أدب اليوميات والسير الذاتية أو الغيرية أو المذكرات، إنه الشعر تلك المملكة واسعة الأبواب الملَكِية لفن القول، وهو نوع مختلف عن الاعترافات النثرية المتعارف عليها. تعتمد فيه الشاعرة على الخيال والمجاز لأدق التفاصيل إثارة، وأرق المشاعر إنسانيا، لتعلن عن نوع جديد قديم من الشعر الإنساني العام، ليس شرطا فيه تأكيد حقائق أو تبيان مسائل ذاتية شخصية، إنه الشعر الذي يمكن أن يقال فيه مالم تقدر ألف رواية أن تقوله.